
دمشق -نساء FM- جرى في سورية قبل أسابيع انتخاب لاختيار أعضاء لمجلس الشعب بعد إسقاط نظام الأسد عبر هيئة ناخبة، ووفق آلية تنص على أن الهيئات المناطقية التي شكلتها اللجنة العليا تنتخب ثلتي الأعضاء، على أن يعين الرئيس أحمد الشرع الثلث المتبقي. حصدت النساء المرشّحات لعضوية المجلس ستة مقاعد فقط من أصل 119 مقعداً أعلن فوزها.
ولم تكن النتيجة بحد ذاتها مفاجأة، إذ لا يتعلّق السؤال الذي يمكن طرحه هنا بالآليات فقط وهذا موضوع آخر، فالشعب برأي بعضهم لم ينتخب، بسبب من تلك الآليات. ولكن، هل ستتغير النتائج إن تغيرت الآليات؟ وهل ستفضي المقدمات إن اختلفت إلى نتائج مغايرة؟ لعل المرأة أفضل من يملك جواباً، لكونها تدرك اللعبة، وفي أحيان كثيرة، تنخرط فيها بكامل إرادتها. وليس جديداً هذا التواطؤ بين السياسي والثقافي والاجتماعي، إذ إنها تعي أنه لا فائدة من المقاومة ولذلك ستتظاهر بالرضى، رغم قناعتها بالعكس. وهي ستفعل ما يطلب منها، وإن كان ضد نفسها لأنها تعي أن الفجوة بين النصوص التي يجترحها البشر والواقع كبيرة. كما أن الصياغات التي ينتجها الفكر من تشريعات ودساتير تحتوي أحكاماً رائعة وعادلة وإنسانية. وهي أشبه بعناوين كبرى للمثاليات، لكن الشيطان دائماً في التفاصيل.
فما إن قررت الكتابة عن موضوع ضعف تمثيل المرأة في الانتخابات التشريعية أخيراً حتى سألتُ نفسي: متى كان تمثيلها قوياً!؟ حدثني صديق عن مكانتها في الواقع الاجتماعي، فتذكّرت كيف كانت النساء ينتظرن حتى ينهي الرجال طعامهم في القرى البعيدة والنائية.
حاولت النسوية، عن حسن نية، أن تغيّر واقعنا نحن النساء، لكنها لم تفعل سوى تعميق هذا الشرخ
لا أعرف ما الذي جعل كلمة الاتحاد النسائي تقفز إلى ذهني، تليها جملة اتحادات، ليس أولها اتحاد الفلاحين، وليس آخرها اتحاد النساء الأمازونيات اللواتي يتمتّعن بحس راديكالي تجاه كل ما هو ذكوري. أجريت بحثاً على محرّك غوغل فلم يزد الأخير على ما سمعته في الخطب الكثيرة شيئاً، فهناك تاريخ تأسيس الاتحاد في دمشق 1933 برئاسة عادلة بيهم، كما أنه يعتبر الاتحاد النسائي الثاني بعد الاتحاد المصري بقيادة هدى شعراوي في 1923، ومن إنجازاته المشاركة في الإضراب الستين 1936، إضافة إلى أنه ساهم في مشاريع كثيرة، منها محو الأمية. ولكن الاتحاد النسائي، كما أعرفه وتعرفه نساء قريتنا، مختلف كثيراً عما قرأت. وفي التسعينيات، وعلى بعد أمتار من الحي الذي أقطن فيه مع عائلتي، أقيم مبنى الاتحاد النسائي. ولم تكن النساء يدخلن إليه إلا نادراً. حين تترافق دورات محو الأمية أو الخياطة بعلب السمن وأكياس السكر والأرز وعلب الزيت. وفي المقابل، لم يكن قادراً مثلاً على أن يقدّم الدعم لامرأة أرادت متابعة تعليمها بالضدّ من رغبة ذكور أسرتها الذين يصرّون على تزويجها؟ كما أن موضوع زواج القاصرات خارج صلاحيات الاتحاد، وهذا مفهوم، فلم تكن هناك دورات توعية في هذا الشأن، ولم يقدّم أي حماية لامرأة معنّفة، كما يمكنك أن ترى الدماء تسيل على بعد أمتار منه. الكل يعرف، ولا أحد يريد أن يتحدّث عن الأمر (كما في "قصّة موت معلن").
العالم يتغيّر، واللغة أيضاً، إذ إن عبارات من قبيل "تمكين، تمثيل، وعي، التنمية، صنع القرار، الفرص" خلاقة، لكنها أقرب إلى البيانات التي يلقيها نشطاء البيئة في صالة مكيّفة، فيما تحترق الغابة قربهم. إذ إن واقع المرأة وعلى بعد خطوات من خيمة لتمكين النساء في مخيّمات الشتات السوري يقول العكس، والبداية لا تكون عادة من النهاية، بل من البداية. وفي هذه الحال، لا تفعل الكلمات شيئا أكثر من أن تطمس الواقع تحت هذه الموضوعية الجافة كورق الشجر. حيث لا يؤدّي المعنى إلى نقيضه، بل لا يؤدّي إلى أي شيء، يأتي مدرّبو الورشات ومعهم عدة كاملة من العبارات الجاهزة والمصوغة على قياس واقع طبيعي، لكي يتحدّثوا لنساء يعشن واقعاً أقل من الطبيعي.
حاولت النسوية، عن حسن نية، أن تغير واقعنا نحن النساء، لكنها لم تفعل سوى تعميق هذا الشرخ، إذ اعتقدت كثيراتٌ بتعبير، أليس غاردين، وبتأثير مباشر أو غير مباشر من سيمون دي بوفوار أن" النسوية ليست سوى طريقة للهجوم على المجتمع بصورته الموجودة". وفي أفضل الأحوال، كانت قضايا النساء مُربحة في مجال الدعاية والحصول على تمويل. ولم يكن غريباً أن يحمل قضاياهن، وأن يتحدّث باسمهن رجال. من دون أن يسألهن أحد عن آرائهن، إذ لم تستطع كل تلك المنظمات والنقابات الحكومية أو غيرها زحزحة الجبل من مكانه، أو تغيير النظرة إلى المرأة، وهي أفكار رائعة لا يتعدّى تأثيرها المسافة التي يقطعها الرجل عائداً إلى منزله، ويبدو أن الرجال كانوا يستمعون إلى تلك المحاضرات المملّة عن حقوقها وعن لغة خشبية مقطوعة عن واقعها الحي، لكنهم يدركون أنهم قضوا وقتاً جيداً، وهو ليس أفضل وقتٍ بالنسبة لهم، كما أنهم يثقون بأن شيئاً لن يتجاوز الكلمات، وهم على حقّ، إذ إن عناوين منقطعة عن واقع معاش لن يكون لها أي أثر. بل تبدو تسلية جيدة وطريقة لنعرف كيف تفكر النساء في النساء.
ثمّة جزئية مهمّة في الإعلان الدستوري السوري الحالي، تنصّ على أن الدولة "تلتزم بحماية المرأة من جميع أشكال القهر والظلم والعنف". ولكن السؤال حالياً يتعلق بالآليات لحمايتها
ولكن ماذا عن الثقافة؟ ... هي واسطة العقد في هذه البنية المعقدة إذ تمتد بجذورها إلى إرث طويل، حمّلت المرأة كل الصور السلبية ووسمتها بالشيطنة تارة وبالعكس تارة أخرى. إذ يحفل التراث بالنصوص والحكايات والأشعار، التي تدلّ، من دون لبس، في خطابها على عدوانية مبطّنة، فكتاب "نزهة الالباب" للتيفاشي وأشعار (أبو نواس) ومرويات الجاحظ بطابعها الساخر تحمل في طياتها كراهية للنساء. وفي المقابل، لم تكن لدى المرأة أي قراءة مقاومة لهذا التراث وللصورة السلبية التي رسمت لها ولروايتها التي صاغها ذكور، حتى كأنها لا تعرف نفسها في هذه المرويات. وهذا يعود، في جزء كبير منه، إلى الخوف من السلطة الذي تغلغل عميقاً في دمنا، إذ لسلطة المثقف الذكر قوة السياسي نفسها، بل امتد الأمر إلى أن تتبنّى في كثير من مروياتها الصورة نفسها التي رسمت لها. وحتى حين حاولت البدء من خطوط مقاومة بدأت من النقطة نفسها التي رسمت لها، ولم تتجاوزها، بل كتبت في أحيانٍ كثيرة بلغة مذكرة.
وضعيّة المرأة في الدساتير مصوغة بطريقة مثالية، والخطاب السياسي حولها إنساني، لكن العلة التي يدركها ربما أو لا يدركها السياسي أن الفجوة بين ما يصاغ والبنية الاجتماعية كبيرة، كما أن واقعاً مشكّلاً من تفكير نمطي لا يثق بالمرأة الطبيبة ولا المرأة التي تقود السيارة أو الشاحنة لن يعطي صوته لها، كذلك نتحمّل، نحن النساء، جزءاً من سوء الفهم، فالشعور بأننا لسنا مسؤولات، ولا يمكن الثقة بنا متأتٍّ من تاريخٍ انحدر إلينا عبر درب طويل، عبّدته الجدّات اللواتي جرى تطويعهن؛ إذ لم تكن تلك النظرة من اختراع الذكور فقط، بل كانت أيضاً نسوية بامتياز.
ثمّة جزئية مهمّة في الإعلان الدستوري السوري الحالي، تنصّ على أن الدولة "تلتزم بحماية المرأة من جميع أشكال القهر والظلم والعنف". ولكن السؤال حالياً يتعلق بالآليات لحمايتها. أتذكّر أن بشّار الأسد، بجهازه الأمني وجبروته كان يخشى من نقمة المجتمع حين يتعلق الأمر بامرأة، وكانت السلطة البائدة تغضّ النظر عن انتهاكات أو جرائم خوفاً من ارتداداتها المجتمعية.
وبالانتقال إلى "الفضاء العام"، تشعر النساء بأنهن فيه غريبات. وأحياناً، يتركن هذا الفضاء لأنهن يدركن أنهن سيتحمّلن مسؤولية كبيرة، وعبئاً يضاف إلى حياتهن، وفي أحيانٍ كثيرة، يصبحن مسؤولاتٍ عن جرائم ترتكب بحقهن، إن البيت ملاذهن الآمن، وحين خرجن إلى العمل أدركن أنهن لن يكنّ أبداً منافسات حقيقيات للرجال.
تروي غايوترا بهادور، في كتابها "نساء الهند المفقودات" (ترجمة ايهاب عبد الرحيم علي) أن حشداً من الرجال تحرّش بامرأتين هنديتين تحملان الجنسية الأميركية لدى مغادرتهما فندقاً في مومباي بعد منتصف الليل للتنزه مع زوجيهما بمناسبة العام الجديد. وقال رئيس لجنة حقوق الإنسان في الولاية عن الحادث: "نعم هؤلاء الرجال سيئون، لكن من طلب من المرأتين الخروج في الليل". ... تعكس هذه الإجابة حقيقية رمزية، تظهر كيف يُستخدم القانون والسلطة لتبرير العنف ضد النساء. والمفارقة أن من يسنّون القوانين ذكور. وقد قال رئيس اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب، محمد طه الأحمد، "إذا لم يكن هناك دور داعم للرجل لن تنهض المرأة". وهذا يعني عمليا أن المرأة لن تستطيع التحرّك من دون دعم الرجل، وهو الرجل نفسه الذي يؤمن بثقافة تراها أقلّ جدارة في تقرير مصيرها أو مستقبلها في أحيانٍ كثيرة، يمكنها اختيار الفرع الذي ترغب فيه، ويمكنها مثلاً شرب الماء بالطريقة التي تختارها. ولكن، في الأمور الجوهرية والحياتية، والتي تخص عمق وجودها، الرجل هو من يقرّر! الأب وابن العم والأخ...وسابع جد إن لم يوجد هؤلاء.
لطالما قيل إن وضع المرأة من صنع يديها، وهذا جزء جوهري في سرديتها، ولا يمكن إغفال ذلك، والنساء على وعي تام بأنهن مدعوّات إلى الحفلة، ولكن بشروط صاغتها بنية تمتد إلى تاريخ طويل من الذهنية العشائرية والذكورية والنظرة إلى المرأة. إنها ومنذ زمن تدخل في لعبة السياسة، وتدخل في الإعلام، وتتحرّك في الفضاء العام الذي يخط قوانينه ذكور. كما أن عليها (على غرار أليس، بطلة لويس كارول) أن تتناول من تلك العلبة السحرية حتى تتأقلم مع محيطها، تكبر تارّة وتتلاشى تارّة أخرى بحسب الظروف. ... وإلى أن يحين دورها، تبقى تشعر بأنها ورقة رابحة في كل الألعاب التي يمارسها البشر في حياتهم، السياسية والثقافية وغيرها...بحيث ستضطرّ يوماً للصراخ، على غرار أليس، في وجه الملك والملكة وبقية مخلوقات الغابة: وفي النهاية، لستم سوى مجموعة من أوراق اللعب.
المصدر : العربي الجديد
