
غزة-نساء FM-جورج كرزم/ مجلة آفاق البيئة والتنمية - اتسم العدوان الدموي الإسرائيلي على قطاع غزة باستخدام تكنولوجيا عسكرية متطورة، حيث استخدمت إسرائيل مجموعة متنوعة من أسلحة الدمار الشامل الفتاكة ضد السكان المدنيين، ما أثر على صحتهم وبنيتهم التحتية ونوعية حياتهم وظروفهم المعيشية بشكل عام. وتمتد عواقب هذه الأسلحة إلى ما هو أبعد من الخسائر الفورية، ما يخلق تحديات صحية وبيئية وحياتية ووجودية طويلة الأمد لأهالي القطاع.
وخلال 14 شهرا من العدوان الدموي (أكتوبر 2023-نوفمبر 2024)، أسقطت إسرائيل على قطاع غزة أكثر من 85 ألف طن متفجرات، ما يوازي أكثر من 5 قنابل نووية، آخذين في الاعتبار أن وزن القنبلة النووية التي ألقيت على المدينة اليابانية هيروشيما (في نهاية الحرب العالمية الثانية) كانت نحو 15 ألف طن؛ علما أن مساحة هيروشيما حوالي 900 كم2، بينما مساحة قطاع غزة نحو 360 كم2. وفي الوقت الذي كانت حصة كل 1 كم2 أكثر من 236 طنا من المتفجرات، فقد بلغت حصة الفرد الغزي الواحد 37 كغم!
المقال التحليلي التالي يبحث في مدى استخدام إسرائيل لهذه الأسلحة وآثارها البيئية والصحية العميقة، مستفيدا من الأدلة العلمية وتقارير الخبراء.
"نظام ذخيرة الهجوم المباشر المشترك": System Joint Direct Attack Munition (JDAM)
استخدمت إسرائيل على نطاق واسع نظام JDAM الذي يحول القنابل غير الموجهة إلى ذخائر موجهة بدقة. ورغم تصميمها لتقليل الأضرار الجانبية، إلا أن المُكونات المتفجرة في قنابل JDAM تترك بقايا خطيرة في البيئة (Al-Agha & Khalaf, 2013).
الاستخدام الواسع لهذه الأسلحة أدى إلى تلوث كبير للتربة والمياه في قطاع غزة، حيث كشفت الدراسات عن وجود HMX (المتفجرات عالية الذوبان) وRDX (خليط من المتفجرات)، ما يزيد كثيرا قوة التفجير التدميرية في المناطق المتضررة من الصراع (Al-Agha & Khalaf, 2013).
قنبلة GBU-39 ذات قطر صغير (قنابل مجنحة)
كان نشر قنابل GBU-39 سمة بارزة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. تستخدم هذه الذخائر الصغيرة الموجهة بدقة لقدرتها على اختراق الأهداف المحصنة. ومع ذلك، أدى استخدامها إلى انفجارات ثانوية واسعة النطاق، ما أدى إلى تدمير هيكلي كبير ودمار بيئي ضخم (Al-Agha & Khalaf, 2013). المركبات العضوية المتطايرة (VOCs) المنبعثة من هذه الانفجارات تتسبب في تدهور كبير في جودة الهواء في المنطقة(Human Rights Watch, 2020).
القنابل الفراغية (الأسلحة الحرارية)
كان لاستخدام إسرائيل الأسلحة الحرارية، أو القنابل الفراغية، في قطاع غزة آثار مدمرة على وجه الخصوص. تولد هذه الأسلحة حرارة وضغطًا هائلين باستهلاك (شفط) الأكسجين من الهواء المحيط، ما يتسبب في دمار كارثي في الأماكن المغلقة (UNEP, 2012). استخدام هذه الأسلحة أدى إلى حرائق واسعة النطاق وقتل أعداد كبيرة من أهالي قطاع غزة، وإطلاق كميات كبيرة من السخام والهباء الجوي القائم على الكربون في الغلاف الجوي.
وبهدف تدمير المباني والمنازل على رؤوس قاطنيها، استخدم سلاح الجو الإسرائيلي القنابل الفراغية والارتجاجية في قصف المباني.
وتتسبب القنابل الفراغية في تفريغ الهواء الداخلي من المبنى المستهدف، فيؤدي الاختلاف الكبير بين الضغط الداخلي المنخفض جدا للمبنى والضغط الخارجي المرتفع، إلى انفجار المبنى وانهياره نحو الداخل. وتتميز الإصابات بهذا النوع من القنابل بتهتك وتلف كبيرين في أعضاء الجسم الداخلية، بينما تكون الآثار والجروح الخارجية على الجسم سطحية وطفيفة (International Committee of the Red Cross, 2020). وسبق أن استخدمت إسرائيل أيضا هذا النوع من القنابل أثناء اجتياحها للبنان وحصار بيروت عام 1982، وأيضا أثناء حرب تموز 2006 في لبنان، وحرب الكانونين (2008-2009) وعدواني 2014 و2021 ضد قطاع غزة.
قنابل MK84
الاستخدام الإسرائيلي المكثف لقنابل MK84 التي تزن كل منها حوالي طن وتتميز بقدرة تفجيرية عالية (Al-Agha & Khalaf, 2013، لم يتسبب في قتل جماعي مرعب وتدمير فوري فحسب، بل تسبب أيضا في أضرار جانبية جسيمة في قطاع غزة، وتدمير بيئي طويل الأجل. كما أن الحفر الكبيرة التي أحدثتها أدت إلى تعطيل أنماط الصرف الطبيعي، وحدوث فيضانات وتآكل موضعيين (Al-Agha & Khalaf, 2013).
الفسفور الأبيض
قصفت إسرائيل مناطق عدة في القطاع بالفسفور الأبيض، ما تسبب بآثار عشوائية قاتلة في التجمعات المدنية، وعواقب بيئية وصحية خطيرة، بما في ذلك تلوث كبير للتربة والمياه، وتغيير درجة حموضتها (pH)، وإتلاف الغطاء النباتي والنظم الإيكولوجية المائية (Human Rights Watch, 2020).
وتعد القنابل الفوسفورية الحارقة التي ألقيت على الأهالي والمنازل في قطاع غزة، من أبرز الأسلحة "المحرمة دوليا" التي استخدمتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حربها البشعة ضد الأهالي في قطاع غزة وبيئته وأرضه، وقد تسببت في حروق مروعة للأشخاص الذين تفجرت فوقهم؛ علما أن الفوسفور المتساقط يحترق فور احتكاكه بالجلد، وهو من نوع الحروق التي تصل العظم (Amnesty International, 2021).
وقد تكرر الاستخدام الإسرائيلي العشوائي للفوسفور الأبيض في المناطق المزدحمة بالسكان. شظايا هذه المادة الحارقة استمر احتراقها في بعض زوايا وأزقة القطاع لأسابيع طويلة.
ويتفاعل الفوسفور الأبيض بسرعة كبيرة مع الأكسجين، فيشتعل مكونا غازا حارقا درجة حرارته مرتفعة، وغيمة دخانية بيضاء كثيفة. ويتسبب في حروق من الدرجتين الثانية والثالثة. وإذا استُنشِق قليلا يؤدي إلى السعال وتهيج الرئتين والقصبة الهوائية. أما إذا طالت فترة الاستنشاق فيُحْدِث جروحا في الفم وكسرا في عظمة الفك.
تلوث قطاع غزة بالفسفور الأبيض يشكل تهديدا كبيرا على الصحة العامة والبيئة، ومن المتوقع أن يترسب في التربة، فضلا عن ترسبه في البحر، وتحديدا في الكائنات البحرية والأسماك في المنطقة.
وفي الواقع، لا تعد إسرائيل الدولة الوحيدة التي استخدمت القنابل الفوسفورية، بل سبق أن استخدمتها القوات الأميركية أثناء الحرب العالمية الثانية وفي حرب فيتنام أثناء مطاردتها للثوار. كما استخدمتها تلك القوات في العراق، وتحديدا لدى هجومها على مدينة الفلوجة في تشرين ثاني/ نوفمبر 2004.
ذخائر اليورانيوم المستنفد (DU)
أثار استخدام إسرائيل لذخائر اليورانيوم المنضب في قطاع غزة مخاوف صحية وبيئية خطيرة على المدى الطويل. هذه الطلقات الخارقة للدروع تتميز بكثافتها العالية، وتترك خلفها بقايا مشعة وسامة تشكل مخاطر كبيرة على صحة الإنسان والبيئة (UNEP, 2012). أظهرت الدراسات أن الآثار الخطيرة لجزيئات اليورانيوم المنضب تمتد لعقود طويلة، حيث يمكن لإشعاع ألفا المنبعث من اليورانيوم المنضب إتلاف الحمض النووي وزيادة مخاطر الإصابة بالسرطان(International Atomic Energy Agency, 2019) .
الحرب البيولوجية
دراسة مثيرة نُشرت أخيراً لعمر دواشي حول "بيولوجيا الحرب ومقاومة مضادات الجراثيم"، كشفت عن كارثة صحية غير مرئية، تتمثل في نشوء مقاومة مضادات الجراثيم، ناتجة عن العدوان الإسرائيلي على القطاع. فمزيج الحصار الممتد، والهجمات العسكرية المتكررة عبر السنين، وصولا إلى أكتوبر 2023 وما تلاه من قصف جوي وبري وبحري مكثف ومتواصل طيلة أكثر من 15 شهرا، وبالتالي انهيار البنية التحتية الطبية والصحية، أدى إلى إيجاد بيئة مؤاتية جداً لظهور مقاومة مضادات الجراثيم وتفشّيها السريع في قطاع غزة، ما يولد مخاطر جدية على الصحة العامة في غزة وما وراءها.
مع انهيار معظم مرافق العناية الصحية وخروجها عن الخدمة، أصبحت معالجة المرضى والمصابين تتم في أماكن شديدة الازدحام وفقيرة التجهيز، حيث تنعدم وسائل مكافحة العدوى، ما يرغم طواقم الرعاية الصحية على الاعتماد على المضادات الحيوية لمكافحة مجموعة كبيرة من البكتيريا، وبالتالي العجز عن استهداف البكتيريا المحددة المسبّبة للعدوى مباشرة، وفي المحصلة تزداد مخاطر تنامي البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
التدمير الشامل المتعمد للمشافي ومرافق العناية الصحية في غزة، عطّل البروتوكولات الأساسية لمكافحة العدوى، بما في ذلك عمليات التعقيم وعزل المرضى المصابين بالعدوى، فضلا عن الافتقار إلى المياه النقية وتوقف معالجة الصرف الصحي والنفايات وانعدام الكهرباء والشح الخطير في المستلزمات الطبية الأساسية (مثل المطهرات والمضادات الحيوية)؛ كل ذلك أجبر الطواقم الطبية على المعالجة المرتجلة للمرضى، ما عزز البيئة المؤاتية لتفشي العدوى وتنامي مقاومة مضادات الجراثيم وانتشارها. يضاف إلى ذلك، أن إقامة نحو مليونين من أهالي قطاع غزة في مراكز الإيواء المزدحمة جدا والمفتقرة إلى إجراءات النظافة، عجّل في انتشار الأمراض المعدية الناجمة عن الاستعمال المتكرر غير المتحكم به للمضادات الحيوية، ما تسبب في نشوء سلالات بكتيرية مقاومة.
وفي ظل البنية التحتية المدمرة وموارد المياه الملوّثة وانتشار الجثامين المتعفنة تحت الأنقاض، فإن البكتيريا المقاومة لمضادات الجراثيم تستمر في التكاثر لفترات طويلة الأمد حتى بعد وقف العمليات الحربية، ما يمكن أن يؤدي إلى تواصل آثار هذه "الحرب البيولوجية" على مدى عدة أجيال، إن لم تعالج الأزمة الميكروبية غير المرئية التي ولدتها مقاومة مضادات الجراثيم.
أسلحة مروعة
استخدم الجيش الإسرائيلي أسلحة فتاكة محرمة دوليا، وبخاصة في شمال قطاع غزة. وتؤكد الشهادات التي أدلى بها الأطباء والأهالي استخدام أسلحة وذخائر تسببت في إصابات وحالات مبهمة، وتبخر الأجساد. وفي التفاصيل الجديدة الخاصة بمجزرة مواصي خانيونس (أيلول/ سبتمبر 2024) لم يصل 22 شهيدا إلى المشافي (بعد المجزرة)، ويعتقد أن جثامين الشهداء ذابت واختفت بسبب الصواريخ شديدة الانفجار التي قصف بها الجيش الإسرائيلي خيام النازحين، والتي خلفت حفرا وصل عمقها إلى نحو 10 أمتار. بالإضافة لاستخدام قنابل MK84 الأميركية.
كما كثفت قوات الاحتلال في شمال القطاع، استخدامها للروبوتات المفخخة التي تزرع ليلا بين المنازل لتدمير مربعات سكنية كاملة، ما تسبب في خسائر بشرية ومادية هائلة.
يضاف إلى ذلك، استخدمت دولة الاحتلال كمية كبيرة من البراميل المتفجرة لتدمير أحياء سكنية عن بكرة أبيها، وبالتالي القضاء على التهديدات المحتملة وتسهيل تقدم القوات. وغالبا تستخدم البراميل المتفجرة للاقتصاد في الذخائر الأخرى ولتدمير مساحات سكنية كبيرة بسرعة قياسية، وبالتالي كسر صمود الناس وإرهابهم.
وتعد الطائرات المُسَيَّرة "كوادكوبتر" من أكثر الأسلحة الإسرائيلية استخداما في قطاع غزة؛ إذ تهدف إلى تعقب واستهداف الأفراد والتجمعات السكانية، من خلال قصفهم بالمتفجرات الضخمة، كما حدث في محيط مشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، وحي الزيتون بمدينة غزة، ومخيم النصيرات ومدينة رفح.
كوارث بيئية-صحية وإنسانية
كان للاستخدام المكثف للأسلحة المذكورة عواقب بيئية وصحية عميقة وطويلة الأمد في قطاع غزة. فتلوث التربة تحديدا من المخلفات المتفجرة والمعادن الثقيلة، أدى إلى تدهور شديد في الأراضي الزراعية، ما أعاق نمو النبات وعطل النظم الإيكولوجية للتربة. وقد وصل تلوث المياه إلى مستويات حرجة، حيث تم اكتشاف تركيزات مرتفعة من النترات والمعادن الثقيلة في إمدادات المياه في قطاع غزة. كما أن الآثار الصحية على أهالي قطاع غزة شديدة الخطورة؛ إذ تشمل الآثار الفورية ارتفاع معدل الإصابات بالانفجار والحروق الناجمة عن الذخائر المتفجرة والصدمات النفسية العنيفة. وتعد العواقب الصحية طويلة المدى مخيفة، نظرا لزيادة معدلات الإصابة بالسرطان والمشكلات الإنجابية وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة بين المواطنين المتضررين. يضاف إلى ذلك، تفشي الإصابة بالأمراض المعدية، مثل التهاب الكبد والتهاب السحايا وشلل الأطفال، التي تصيب الأطفال بشكل خاص.
وألحق استخدام الذخائر القوية أضرارا جسيمة بالبنية التحتية، ما أثر على الخدمات الأساسية؛ بما في ذلك تدمير شبكات الصرف الصحي وانعدام المياه النظيفة وانهيار البنية التحتية للرعاية الصحية والخدمات الطبية؛ علاوة على الآثار المرعبة لـ"الحرب البيولوجية" على مدى أجيال عديدة قادمة.
كما أن قنابل الدمار الشامل، مثل GBU-39، تسببت بدمار هيكلي واسع النطاق، فضلا عن الحفر الضخمة من قنابل MK84 وبالتالي تعطيل أنماط الصرف الطبيعي. يضاف إلى ذلك الأسلحة الفتاكة المروعة، مثل الروبوتات المفخخة والبراميل المتفجرة والكوادكوبتر.
قَصف قطاع غزة بذخائر الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب وسائر أسلحة الدمار الشامل أثار إدانة دولية، نظرا لضرب دولة الاحتلال عرض الحائط مبادئ القانون الإنساني الدولي والقوانين الدولية التي تحكم الحرب. منظمات حقوق الإنسان دعت إلى إجراء تحقيقات مستقلة واتخاذ تدابير مساءلة لمعالجة العواقب البيئية والصحية الخطيرة الناتجة عن استخدام الأسلحة المحظورة.
المراجع (الواردة في متن النص):
-
Al-Agha, M. R., & Khalaf, R. M. (2013). “Impact of Explosive Residues on Soil and Water Quality in Gaza.”
-
Human Rights Watch. (2020). Rain of Fire: Israel’s Unlawful Use of White Phosphorus in Gaza.
-
Amnesty International. (2021). Blackened Lives: Health and Environmental Consequences of Explosive Weapons in Gaza.
-
United Nations Environment Programme (UNEP). (2012). Environmental Assessment of the Gaza Strip.
-
International Atomic Energy Agency (IAEA). (2019). Health Effects of Depleted Uranium Exposure.
-
International Committee of the Red Cross. (2020). Humanitarian Consequences of Explosive Weapons in Urban Areas.