الرئيسية » تقارير نسوية » نساء فلسطينيات »  

"تأثير أحمر الشفاه": حكاية عن إرادة الحياة
23 أيلول 2025

 

رام الله-نساء FM- كتبت أماني سعيد جوهر-في لحظات الانهيار، حين تظن أن كل شيء يتداعى… تكتشف أن البشر يبتكرون طرقًا غريبة للبقاء.
تسير في شارع مكتظ بمدينة فلسطينية تعيش تحت ضغط اقتصادي خانق، فتجد المطاعم مزدحمة، والمقاهي تكاد لا تتسع لروّادها. تسمع عن عائلات تخطط لسفر قصير، أو تشتري كماليات صغيرة رغم أن دخلها بالكاد يكفي. وربما تفاجأ حين تعرف أن معدلات المواليد لا تنخفض، بل أحيانًا ترتفع وسط الحروب والدمار.
فتقف أمام نفسك وتتساءل: ما الذي يحدث؟ أهو إنكار للواقع؟ أم تناقض يستعصي على الفهم؟
لكن خلف هذه المفارقات تختبئ قصة أخرى، قصة عن النفس البشرية حين تُحاصَر، وكيف تبحث غريزيًا عن متنفس، عن لحظة تُشعرها بأنها ما زالت تملك شيئًا من السيطرة، ولو كان بسيطًا.
في الاقتصاد السلوكي، ثمة مفهوم يُعرف باسم "تأثير أحمر الشفاه" (The Lipstick Effect).
الفكرة وُلدت من ملاحظة بسيطة: عندما تضيق الدنيا ويستحيل الوصول إلى الأحلام الكبيرة—منزل، سيارة، استثمار يلجأ الناس إلى بدائل صغيرة ميسورة الثمن. أحمر شفاه، قميص جديد، كوب قهوة فاخر، عطر… أشياء متواضعة لكنها تحمل معنى عميقًا.
إنها ليست مجرد مشتريات، بل رسالة صامتة تقول: "ما زلت هنا، وما زالت لديّ القدرة على الاختيار".
وهذه الظاهرة تكررت في أزمات كبرى:
•     في الكساد العظيم (1930s)، لاحظت شركة Estée Lauder أن مبيعات أحمر الشفاه ترتفع رغم أن الاقتصاد الأمريكي ينهار. وكأن النساء وقتها كنّ يبحثن عن لمسة جمال وسط الرماد.
•     بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، بينما كان العالم يعيش على وقع الخوف وعدم اليقين، تضاعفت مبيعات شركات مثل Mac وMaybelline. كان شراء مستحضر تجميل بسيط بمثابة استعادة لجزء من "الطبيعي" المفقود.
•     خلال الأزمة المالية العالمية 2008، وبينما كانت البنوك تفلس والأسواق تهوي، ارتفعت مبيعات مستحضرات التجميل بنسبة 15% عالميًا. رسالة واضحة بأن البشر يفتّشون دومًا عن زاوية صغيرة للطمأنينة.
وإذا اقتربنا أكثر، سنجد أن فلسطين تقدم نسخة حيّة من نظرية "تأثير أحمر الشفاه".
رغم البطالة والغلاء والأزمات المتلاحقة، يُلاحَظ أن قطاع المطاعم والمقاهي ظل محافظًا على حيويته. ووفق تقارير محلية، حقق هذا القطاع في مدن مثل رام الله نموًا سنويًا يقارب 8% حتى عام 2022، رغم أن القدرة الشرائية للمواطن تراجعت.
ليس هذا فقط، بل إن معدل المواليد الخام في فلسطين عام 2023 بلغ 28.8 لكل 1000 نسمة، مع أعلى المعدلات في قطاع غزة. وسط الحصار والدمار، يولد أطفال جدد، وكأن الحياة تعاند الواقع وتصرّ على أن تُكمل طريقها.
حتى مبيعات بعض السلع الصغيرة من الملابس والعطور إلى الأجهزة البسيطة تستمر بشكل لافت، لا لأنها "ترف" بل لأنها تمنح الناس إحساسًا بالكرامة، ولحظة راحة نفسية وسط ضجيج الحياة الثقيلة.
حين ننظر إلى هذه المشاهد بسطحية، قد نلوم الناس: كيف ينفقون على الكماليات وسط أزمات معقدة؟
لكن التعمق يكشف شيئًا مختلفًا: هذه ليست إنكارًا للواقع ولا تجاهلًا للألم، بل آليات نفسية للبقاء. الإنسان حين يُحاصر، يبحث عن تفاصيل صغيرة تُعيد إليه الإحساس بالسيطرة، تُعيد تعريفه ككائن قادر على العيش، لا مجرد ضحية للأحداث.
"تأثير أحمر الشفاه" ليس فقط درسًا في الاقتصاد، بل شهادة على طبيعة النفس البشرية. حين نرى ازدحام المطاعم والأسواق أو شراء الكماليات وسط الأزمات، يجب ألا نجلد أنفسنا أو غيرنا. هذه ليست خيانة للواقع، بل طريقة للاستمرار.
الحياة لا تُقاس فقط بما نفقده، بل أيضًا بما نتمسك به، ولعل تلك التفاصيل الصغيرة فنجان قهوة، عطر بسيط، أو ابتسامة طفل يولد وسط الركام، هي التي تمنحنا الشجاعة لنعبر الأزمات دون أن نفقد إنسانيتنا.
لكن المشكلة الحقيقية تظهر عندما يتحول هذا السلوك من استراحة مؤقتة إلى نمط حياة يستهلك ما تبقّى من قدرتنا المالية، ويؤجّل التفكير الجاد في المستقبل.
التاريخ يعلّمنا أن الشعوب التي عاشت أزمات اقتصادية خانقة لم تنجُ فقط بفضل قدرتها على "تخفيف الضغط النفسي" عبر استهلاك صغير، بل لأنها في الوقت ذاته أعادت ترتيب أولوياتها، وأدركت أن النجاة تتطلب وعيًا ماليًا طويل المدى، وتخطيطًا يوازن بين الضروري والكمالي.
اليوم، نحن في فلسطين -كما في كثير من دول تعيش تقلبات اقتصادية- أمام سؤال مفتوح: كيف نوازن بين حاجتنا الإنسانية الفطرية للفرح الصغير، وبين الحاجة الملحة لوضع خطط أكثر واقعية لمستقبل غير مفهوم الملامح؟
الجواب ليس في جلد الذات ولا في إنكار طبيعتنا البشرية، بل في أن نمنح أنفسنا لحظات بسيطة من السعادة، لكن بوعيٍ محسوب، حتى نتمكّن من تحويل الاستهلاك إلى سلوك متوازن، لا إلى فخّ يبتلع مدخراتنا وقدرتنا على الصمود.