الرئيسية » مقالات »  

«36 شارع عباس حيفا» لرائدة طه.. حكايات فلسطين تتوالد وتنبض حياة
05 تشرين الأول 2017

 

زهرة مرعي
(القدس العربي)

الفوانيس المسرحية – بين البداية مع النشيد الصهيوني الNسرائيلي، وبين نشيد «موطني» الفلسطيني، الذي شكل مشهد الختام، مأساة شعب مشتت تتوارث حكاياته الأجيال. صدح النشيد الاسرائيلي في أرجاء مسرح المدينة بلحن شجي. وحكى الأمل المحقق بعد 2000 عام من الحلم اليهودي. هكذا بدأت الكاتبة والممثلة الفلسطينية رائدة طه عملها المسرحي الجديد «36 شارع عباس حيفا».

هو حلم أحال المتفرجين لاحقاً إلى الشتات وما امتلأت به السنون من أحداث إنسانية، نضالية وإجتماعية.
بعد «ألاقي زيك فين يا علي»، العرض المسكون بسيرة ذاتية لإمرأة نمت وكبرت وشقت طريقها وفي وجدانها وطنها المحتل، واصلت طه أبحاثها لتسند سيرة ناشئة من حياتها وتتوسع بها لتصبح سيرة وطن وشعب يجب أن تعيش.

طه «العائدة» بمفاعيل اتفاق أوسلو تتجول في وطنها التاريخي جميعه، وتلتقي أصدقاء والدها الشهيد علي طه. «العائدة»، وصف باتت تحمله منذ زواجها، التقت بعائلة المحامي علي الرافع الذي يسكن دار عائلة أحمد أبو غيدا، التي تشتت سنة 1948، وأصبحت ابنته صديقتها.
من خلال تلك العائلة التي تسكن في 36 شارع عباس حيفا، تأخذ طه المتلقي في رحلات يكثر فيها الإقلاع والهبوط بين شتى منافي الأرض، التي جابها الفلسطينيون، ويتعدد معها أسلوب السرد المتبع من قبلها.
في سردها للحكاية التي قررت رائدة طه أن تشركنا بها، تضع حياة الإنسان الفلسطيني الذي صمد في أرضه رغم المعاناة ومضايقات المحتل أمامنا بشفافية.

نصبح وإياه وكأننا في حال واحد. نشد على يده ونحييه. نحبه ونشجعه. ونترقب بقية الأحداث بشغف. فحدود السرد لدى الممثلة واسعة، وهي تتقمص الشخصيات تباعاً دون فاصل بينها حتى بالنفس. تغوص في التفاصيل دون ملل. يشعر المتفرج وكأنه في تواصل مباشر مع «36 شارع عباس حيفا»، أو حتى في ضيافة آل الرافع، حيث ربة البيت المناضلة في حال استعداد دائم لقدوم ضيف مفاجئ.
تقترب رائدة طه مسافة لا بأس بها من الأمثال الشعبية في روايتها لمراحل تراجيديا التشرد والشتات. ليست أمثالاً مارقة أو عرضية الحضور، بل لها فعل تحليلي لواقعة ما، وتحمل موقفاً، وتخترق عقدة الذنب التي تعصر الفلسطيني المقيم في منزل آخر هجر خوفاً، لتحيلها في جزء منها إلى النازحين: «كان لازم نضل حتى لو اندبحنا»، أو تجعل الطرفين يتشاركونها.

الحكاية التي تحملها الألسن وترويها من جيل إلى جيل لا تندثر ولا تفنى كما حكايات الشعب الفلسطيني. وحكاية الفنانة الفلسطينية التي أدهشت كل من حضر عرضها الأول، ليست فقط فعل فن ومتعة شخصية. بل هو فن ذو هدف، تكمل صاحبته من خلاله دوراً تؤمن به، ألا وهو دورها الوطني تجاه أرضها المغتصبة. تقدم الصور التي تنكشف تباعاً تماماً كما تتوالد الحكايات، لتقول في كل واحدة كم يصعب على المحتل أن يعزل الفلسطيني أو يقيله من قضيته.أمثلتها تتوالى وجلها نسائي. هو دور المرأة في الحكاية، وفي حفظها ونقلها للآخرين. أن تكون الأمثلة نسائية فهذا طبيعي ومتوارث، فالنساء هم أصل الحكاية وحاملات لها بأمانة، وبخاصة حكايات فلسطين.

في نصها هذا وفي تجسيدها له صارت طه محترفة في وضع المتلقي وجهاً لوجه أمام مشهدية ما ترويه. بنت، حاورت، وصفت، وجعلت صديقتها «نضال» قطعة من لحم ودم نشعر قوتها وبأسها ودبيب الحياة المفعم فيها وضجيجها أيضاً.حتى أنها جعلتنا نشتم رائحة طعام «سارة» ونجلس إلى مائدتها السخية.
ترافق عرض «36 شارع عباس حيفا» مع مؤثر موسيقي أثبت حضوره لـ»شريف صحناوي».
ولعبت إضاءة «غيوم تيسون» دورها في إشغال الخشبة الفسيحة الخالية إلا من طه. هي الممثلة التي أتقنت لعبة المونودراما، صارت حالة ننتظرها، لنسمع منها جديداً تصل إليه أبحاثها عن فلسطين. ولنزداد معها ثباتاً بأن فلسطين هي القضية، وكل ما يدور حولها هدفه حرف البوصلة عن وجهتها. رائدة طه مرة جديدة بطلة الحكاية الفلسطينية، لا تجمّل ولا تقبّح، تحكي الأشياء بحلوها ومرها، بسلبياتها وإيجابياتها. تتحرك بعفوية، وتملك قدرة تأثير كبيرة على الحضور، هي باختصار سيدة نصها وسيدة حكاياتها.تلك الحكاية التي لن يشْف منها صهيوني: «المرض الفلسطيني» سيطارده حتى لو عاد إلى فيينّا.
تلك الحكاية التي آمن بها المخرج الشاب صاحب التجربة في «فرقة زقاق»، جنيد سري الدين، وظّف فيها كافة امكاناته بحيث جعلنا نقترب أكثر وأكثر من فلسطين ونتلمسها ونشم رائحتها من خلال اسلوب تظهيره لنص طه وحركتها.
يذكر أن العرضين الأولين من «36 شارع عباس حيفا» عاد ريعهما للجمعية الخيرية لبنان المتحد: مشروع شباب. وهي مستمرة على مسرح المدينة حتى 15 تشرين الثاني/ نوفمبر.