الرئيسية » تقارير نسوية » مقالات »  

صحافية وأم: وقائع من غرفة الأخبار
10 آذار 2019

 

عليا ابراهيم - صحافية وكاتبة لبنانية

 

لا أعتقد أن نية مديري كانت سيئة يوم قال لي إن مشكلتي كصحافية هي أنني أم.

لا أعرف لماذا تأثرت في حينها إلى ذلك الحد، ولماذا شكلت هذه العبارة التي قالها مديري بخفة، نقطة تحول أساسية في حياتي المهنية والشخصية.

للحظة انتابني إحساس قوي بالظلم. شعرت بتدفق الدماء، يغير لون وجهي، وبدموعي تتدفق بسرعة على وجهي.

فعلت ما علمتني الخبرة أن أفعله في هذه الحالات. ابتسمت.

أردت أن ادخل في جدال معه، ليس لأنني كنت أعتقد أن بإمكاني تغيير رأيه، إنما كان لدي الكثير لأقوله له على هذا الصعيد.

لم أفعل، لأن الوقت كان ضيقاً وكانت لدي أولويات أخرى للنقاش في هذا الاجتماع. نقلت ابتسامتي إلى عيني، واجهته بنظرة أردتها واثقة وقلت له بخفة موازية، “لو كنا في بلاد محترمة، لكنت رفعت عليك قضية، ولكنت ربحتها، وبما أن الأمر ليس كذلك، فلنتحدث عن أمر آخر”، وانتقلت بسرعة إلى موضوعي.   

لم أنس يوماً هذه الحادثة. في حياتي المهنية، هناك ما قبلها، وهنالك ما بعدها. قبلها كنت أكثر خفة وشفافية في الحديث عن صعوبة التوفيق بين الأدوار المختلفة التي ألعبها في حياتي.

بعدها صرت أكثر حذراً وأكثر خبثاً ربما.

اليوم، أعتقد أن بعضاً من قوة هذه العبارة كان بسبب ما تضمنته من حقيقة.  

لم أشعر يوماً بأن الأمومة كانت مشكلتي، ولكنها من دون شك كانت تحدياً أساسياً، جزء كبير منه كان داخلياً.

تأنيب الضمير مثلاً. في السنوات الأولى من الأمومة، كنت مقتنعة بأن الشعور الدائم بالتقصير أصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيتي، وأنه سيكون علي أن أتعايش معه ما حييت.

حصل ذلك لأسباب تتعلق بخيارات شخصية وأخرى فرضت علي.   

شاءت الظروف أن يتزامن حملي كل مرة مع أحداث سياسة استثنائية. المرة الأولى كانت فترة اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري وما تلاها من سلسلة اغتيالات وتطورات، من الانسحاب السوري إلى حرب تموز/ يوليو، مروراً بتفاصيل المحكمة الدولية. والمرة الثانية كانت في فترة معركة مخيم نهر البارد التي خاضها الجيش اللبناني ضد تنظيم “فتح الاسلام”.

في كلا المرتين، تغلبت حشريتي الصحافية على أمومتي، إذ أمضيت جزءاً كبيراً من فترات الحمل متنقلة بين مواقع مشتعلة، وفي كلا المرتين عدت إلى العمل قبل انتهاء إجازة الأمومة.

صحيح أنه في هذه الحالات لم يكن ممكناً فصل الخاص عن العام ولكن للأمانة، جزء من تأنيب الضمير كان بسبب رغبتي الخاصة بالعودة إلى “عالم الكبار”، بعيداً من روتين الأشهر الأولى من حياة الأطفال.

كان ذلك بمثابة استعادة حياتي التي أحبها وعودة إلى نفسي التي أعرفها وأثق بكفاءتها وأبتعد مسافة من تلك المرأة الهشة، التي تستطيع أن تبكي ساعات بسبب زجاجة حليب سقطت من يدها، فباتت صغيرتها من دون غذاء.

في أوقات الضعف، كنت أقنع نفسي بأن توازني الداخلي مرتبط بعملي، وهذا حقيقي، ولكنني لم أنجح في أن أتجاوز فكرة، أن إعطاء أولوية لهذا التوازن فيه كم هائل من الأنانية. تأنيب الضمير جاء أيضاً لأنني كنت فعلاً أقوم بما اعشق، السفر، التعرف إلى عوالم جديدة دائماً، عدم الاكتفاء بالحياة التي كان يفترض بي أن أكون ممتنة لها… وأيضاً لأن الأمور لم تكن دائماً صعبة، وفي بعض الأحيان كانت مسلية إلى أبعد حدود… لا أزال أذكر تغطيتي إحدى جلسات مجلس النواب الأساسية في نقاش المحكمة المتعلقة باغتيال الحريري.

 

كل تحد خلال العقدين الماضيين كان ضرورياً لأكون اليوم حيث أنا، شريكة أساسية في مؤسسة إعلامية مستقلة، أكثر من ثلثي موظفيها والعاملين الإداريين فيها، من النساء.

أنظر من حولي وأراقب بإعجاب بالغ، عزم الجيل الجديد من الصحافيات على الإنجاز من دون أي مساومة.

 

كان علي أن أشارك في رسالة مباشرة على الهواء كل ساعة، وعلى بعد كيلومترات قليلة كانت ابنتي تحتفل بعيد الأم للمرة الأولى في دار الحضانة.

لم يعرف أحد في القناة عن هذا التحدي. طلبت من حسين وهو شاب لديه دراجة نارية صغيرة البقاء معي، وطلبت من زميلة لي أن تخبرني بكل جديد على الهاتف. على مدى أربع ساعات، تنقلت بين مجلس النواب ودار الحضانة.

لم أشعر يومها بأن الأمر صعب. شعرت بأنه طبيعي.

في تلك الفترة، كانت نكتتي المفضلة أن يسما ابنتي، التي كانت تستيقظ كثيراً في الليل، مثل نشرات الأخبار، “على رأس الساعة كل ساعة”.

نكتة أخرى كانت يوم غفوت أثناء رسالة مباشرة من نهر البارد في المراحل الأولى من حملي الثاني. كان النقل مفتوحاً والمذيعة طلبت مني البقاء على الهواء فيما تأخذ اتصالاً من ضيف آخر.  

كل ما كنت أحلم به في تلك اللحظة كان النوم أو إغماض عيني لثانية، فعلتها ولم أنتبه إلا وقد صرت على الهواء. أضحك من ذلك اليوم وأشكر الله لأنه لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة وقتها

كنت مقتنعة بأن هذا النوع من “البهلوانية” ضروري بقدر ما هو مرحلي. فأنا لن أبقى حاملاً كل حياتي، والأطفال سيكبرون ولكنني سأبقى صحافية. لم تكن أمومتي مشكلة، كانت تحدياً، وكنت أحب أن أربح هذا التحدي في كل مرة

صحيح أنه في كثير من المرات لم أرد أن يوضع الأمر على الطاولة، ولكن ليس بسبب الأمومة إنما لكوني امرأة.

كان ذلك زمن آخر قبل “مي تو” وأخواتها، وقناعتي كانت أن نجاحي المهني مرتبط بأن ينسى من حولي أنني امرأة، أقله في فترات العمل.

كانت التجربة مضحكة في كثير من الأيام.   

اسم المربية التي كانت تهتم بعائلتي في غيابي سجلته على هاتفي باسم رئيس الحكومة في حينه. عندما كانت تتصل بي وأنا في اجتماع أو مقابلة، كنت أستأذن لأتحدث مع “دولته” وأخرج من الغرفة لأؤمن طلبات المنزل.

مقابل التحديات كان هناك الكثير من التسهيلات المتعلقة بكوني امرأة. في مناطق النزاع مثلاً، سمح ذلك لي بأن أدخل إلى بيوت المقاتلين، وأن أتحدث إلى زوجاتهم وأولادهم، وهذا الأمر، الذي كان صعباً جداً على الزملاء الرجال، أعطاني بعداً إضافياً في تغطياتي، أنا فخورة به إلى أبعد حدود.

عندما أستعيد هذه اللحظات، أشعر بأنها كانت المضادات التي مع الوقت أكسبتني مناعة ضد تأنيب الضمير، أقله ذلك المتعلق بكوني أماً عاملة.  

كل تحد خلال العقدين الماضيين كان ضرورياً لأكون اليوم حيث أنا، شريكة أساسية في مؤسسة إعلامية مستقلة، أكثر من ثلثي موظفيها والعاملين الإداريين فيها، من النساء.

أنظر من حولي وأراقب بإعجاب بالغ، عزم الجيل الجديد من الصحافيات على الإنجاز من دون أي مساومة. أسأل أحياناً ما الذي كنت اخترته لو كنت أنا اليوم في العشرين من عمري، والحقيقة أنني وعلى رغم اندفاعي الكامل وحماستي غير المشروطة لأي تجربة خاصة، لا أعرف.

ربما لأنني لا أستطيع أن أتجاوز ما راكمته من خبرة. ربما لأنني أعرف أن الموضوع ليس موضوع نساء ورجال بقدر ما هو موضوع سلطة. مقابل تعليق مديري غير المنصف بأن كوني أماً كان مشكلة، تعليق آخر من زميلة قالت لي يوماً إنني مخطئة باعتقادي بأن لي الحق بأن تكون لي عائلة وحياة مهنية ناجحة.

لا أعتقد أن أياً من هذين التعليقين، على رغم وقعيهما، عن سوء نية.

أعتقد ذلك لأن مديري لم ينتبه حتى يوم قلت له بعد سنوات على تعليقه، إن مشكلته أنه ابن.

حصل ذلك، إثر تغيبه عن العمل بضعة أيام، بسبب مرض أمه